كانت الساعه تشير إلى ٣:٣٠ من فجر يوم الأحد الموافق ٢٤ مارس، عندما راودني كابوس مزعج، بمجمله كان حول أنني سقطت مغماً علي في هذا البلد الجديد فسارعت أيادي كثيرة تحاول إيقاظي حتى وجدت نفسي فجأة في مركز أمني احادث البوليس حول ظروف غيبوبتي
استيقظت بعدها على اشعارات غريبة على هاتفي ومتوالية، اصحابها يتحدثون من فرنسا وتونس وبلاد أخرى:
– هلو مرحبا ؟
– مرحبا، لقد عثر البوليس الفرنسي على جثة فتاة داخل البحيرة مع هاتفها، شخص ما مر في الصباح الباكر من هناك فأبلغ عنها، الفتاة هي #باتي #بتول_القضاة ونعتقد أنك على علاقة وثيقة بها وبما جرى لاحقاً، نشتبه بأنها جريمة قتل
ما دار في ذهني حينها، وما أحسست به ليس من السهل وصفه، وأول ما خطر لي هو لحظاتها الأخيرة، والأكثر إزعاجاً أن يوم الأحد هو يوم عطلة في أوروبا، كيف يمكنني التصرف الآن وسط المعلومات الشحيحة هذه؟
والغريب، أن الإعلام الأردني وعائلتها سارعوا إلى نشر خبر وفاتها بنوبة قلبية كما ادعو إعادتها إلى الأردن ودفنها، وعمدوا إلى تغيير تاريخ وفاتها على أنه كان في ١٩ مارس، بينما في الحقيقة كانت جثة #باتي تجهز للتشريح في فرنسا، فيما حصلت السفارة الاردنية على الحق بتغسيل #باتي واعادتها إلى الأردن ودفنها هناك وهو الأمر الذي كانت ترفضه هي حيث أرادت أن تدفن في فرنسا، لكن لكونها لم تصبح مواطنة فرنسية بعد، اضطرت السلطات إلى الاتفاق مع السفارة الأردنية على إعادتها فور الإنتهاء من تشريح جثتها
انتظرت يوم الاثنين بفارغ الصبر، وفورا طلبت خدمة شخصية من أفراد يعملون في فرنسا في المجال الحقوقي، بأن يتواصلوا مع بعض الاشخاص المقربين ل #باتي هناك وكانوا على مستوى عال من المسؤولية، لكنهم اشترطوا للحديث أن يكون ذلك بشكل مباشر وشخصي معي، وذلك لكون #باتي وضعت اسمي في ملفها عند دخولها إلى فرنسا !!
انتظرت معاينة الجثة والتعرف عليها من قبل معارفها هناك، لقد أكد لنا صديقها المقرب ذلك بالفعل، كانت هي بلا شك، لكن جثتها كانت بحالة فظيعة نتيجة ظروف الوفاة المحيطة
فور الانتهاء من المعاينة هاتفني رقم مسؤول فرنسي عمل على حالة #باتي، أخبرني بأن #باتي تركت رسالة انتحار لم ترد لأحد الإطلاع عليها غير الاخصائية الاجتماعية خاصتها، ثم سألني إن كنت أود سماعها بحكم ضرورة ذلك كوني المسؤولة عن قضيتها أمام الرأي العام، أجبت بالطبع نعم
كانت رسالة مؤلمة جداً، قاسية، وصادمة، خصوصاً إذا ما عرفنا قصتها من البداية..
ففي أواخر عام ٢٠٢٢م وتحديداً في شهر ديسمبر، وصلني على حسابي الخاص في انستغرام @emy_dawud رسالة من فتاة تطلب فيها انقاذها فوراً إذ أنها الآن محبوسة في غرفة مغلق عليها الباب وذلك بعد أن أفتى أحد شيوخ عشيرتها بهدر دمها، كانوا ينتظرون الصباح الباكر ليتمكن العم من القدوم وقتلها
كانت #باتي خائفة، وأرفقت لي صوراً (نعتذر عن نشرها لخصوصيتها وفظاعتها) تظهر تعرضها للتعذيب المستمر على يد أعمامها، حتى أنها فقدت الوعي ذات مرة مدة ٩ أيام داخل منزلها من شدة الضرب وتحت تهديد السلاح، وعندما استيقظت وجدت شعرها مقصوصا وجسدها يحمل كدمات عديدة
فوراً وفرت لها المال عن طريق أحد المتبرعين الذين أتعاون معهم، سهرنا طوال الليل كنت أحاول تهدئتها، وأنني معتادة على أمور كهذه وأن كل شيء شيء ينتهي على ما يرام فلا داعي للقلق، ومن هنا بدأت صداقتنا، بمساعدة إحدى نساء عائلتها التي فتحت لها نافذة الغرفة، استطاعت #باتي الهرب فجراً من محبسها، لم نجد الا صرافاً واحداً مفتوحاً كان في منطقة مرج الحمام، حصرنا الوقت فاخترنا وجهتها إلى تونس مؤقتا كونها أامن بلد عربي، عندما ركبت في طائرتها أرسلت لي الكثير من المشاعر عن كونها لا تصدق أنها نجت وكان ذلك مؤثراً جداً بالنسبة لي
هناك في تونس استطاعت #باتي تكوين علاقات جديدة، بعد أشهر قليلة قدمت لجوئها إلى فرنسا، فلاحقتها تهديدات عائلتها ورسائلهم الغاضبة، لكنها أصرت أن تعيش الحياة، رغم تشخيصها بسرطان الغدد الليمفاوية في ٢٠١٧م، ورغم كل الضغوطات الأسرية التي عانت منها
لم تدم فرحتنا بنجاتها كثيراً، رغم أنها أصبحت تعاونني بشكل مذهل في قضايا النساء والفتيات، ففي غضون عام فقط من وصولها إلى فرنسا بدأت تتغير #باتي شيئاً فشيئا، وفي آخر ٣ شهور من حياتها قطعت #باتي كل اتصالاتها بمن تعرفهم بما فيهم انا واصدقائها في تونس وفرنسا، فيما عاودت الاتصال بأمها بسبب رغبتها بحماية شقيقتها من العنف الذي تواجهه مع عائلتها بسبب اختياراتها
اثناء ذلك لم تجدي الأدوية لمحاربة السرطان نفعاً، فكان عليها أن تخضع لاستئصال وعلاج بالكيماوي، كل ما سبق إضافة إلى الغربة والصعوبات التي عايشتها في بناء حياتها من الصفر جعلها تحت ضغط لا يحتمل. السبت مساءا، تركت #باتي رسالة إلى الاخصائية الاجتماعية خاصتها، تودعها فيها وتوصيها على ابنتها وتشكرها على ما قدمته، في الرسالة طلبت من الأخصائية عدم ذكر أسباب انتحارها وقالت لها: “اذا سألك أحد ما هل قتلت نفسها، قولي نعم لقد قتلت نفسها”
ثم توجهت إلى بحيرة Lac Taillat حيث تناولت جرعة ادوية سمية مميتة جعلتها غير قادرة على الحراك، أثناء ذلك هاتفت #باتي أمها، تحدثتا مدة ساعتين بينما كانت تحتضر، (وفق تحليلي الخاص أعتقد أن #باتي حادثت عائلتها أثناء احتضارها لتعاقبهم بأن ترد لهم جزءاً من الألم الذي أذاقوه لها أعمامها وأمها)، ثم فارقت الحياة !
في صباح يوم الأحد عثر أحد المارة على جثتها بالقرب من البحيرة، كانت الجثة منتفخة ومليئة بالكدمات نتيجة الدواء السمي الذي تجرعته #باتي، وعلى الفور أبلغ البوليس
تقدمت السفارة بطلب للحصول على جثتها، ثم قامت بتغسيلها والصلاة عليها وفق الشعائر الاسلامية، فيما ستنقل غداً الأربعاء جواً إلى الأردن حيث ستدفن هناك
“لقد كانت #باتي فتاة ذكية جداً بشكل مثير للدهشة، وقد علمت نفسها عدة لغات ومهارات أخرى، مثل التصميم الداخلي على الأقل بمستوى مبتدئ. لقد كانت جيدة بما فيه الكفاية في ذلك لكسب المال من خلال القيام بالتصميم الداخلي عبر الإنترنت.
بشكل عام، كانت بحاجة إلى القليل من التوجيه وربطت نفسها بجميع أنواع الجمعيات، في كل من تونس وفرنسا. كنت أعلم أنها تعاني من مشاكل صحية وعائلية غير عادية بالنسبة لشخص في مثل عمرها، لكنني اعتقدت أنها مع استمرار حصولها على الرعاية الصحية وتغيير موطنها ستعيش حياة طويلة ومثيرة للاهتمام.”
🔴 نخطط لترتيب تأبين لها أمام البحيرة التي توفيت بقربها، كذكرى تليق بها، لمن يستطيع الوصول إلى فرنسا للمشاركة في هذا التأبين سننشر تفاصيل الترتيبات لاحقاً هنا
🔴 ذهبت #باتي إلى الأبد، وأراحت جلاديها من عناء مطاردتها، خصوصاً أحد أعمامها الذي استمر بإرسال تهديداته لها حتى في أثناء تواجدها تحت حماية الحكومة الفرنسية، لكن الوطن الذي لم يحتضنها حية كما رغبت، جاهد كثيراً ليحتضنها ميتة عكس ما رغبت !!
طوال سنوات عملي في هذا المجال، قصة #باتي ليست الأولى، لكن يمكننا أن نجعلها الأخيرة إذا قرر الأردنيون وعلى رأسهم الملك والمحكمة الدستورية معاملة المرأة الأردنية كإنسان وكمواطن بدلاً من معاملتها كتابع وملكية للمواطنين الذكور، حتى أن الحيوانات في الأردن تمتلك حقوقاً تتفوق علينا كنساء أردنيات ! وبدل أن يتضارب نوابنا ويعلو صياحهم في البرلمان رعباً من إضافة كلمة “الأردنيات” إلى الدستور رغم تطمين الحكومة لهم مراراً وتكراراً أن هذه المادة لن تمنحنا كنساء أي حق من حقوقهن المسلوبة ولن تخفض أياً من امتيازات الرجال الممنوحة، وأنها مجرد إجراء شكلي للحصول على المزيد من المنح المالية التي تنفق على الفاسدين هنا وهناك. فإلى متى ؟!
بإخلاص: #ايمي_داود .. في تأبين #باتي التي نعرفها